بريد المزابل:
قصة قصيرة بقلم الأستاذ محمد جعيجع من الجزائر ـ مارس 2020
كُنَّا نجلسُ في باحةِ الدّارِ الوَّاسعةِ بُعيدَ صلاةِ العصرِ والدّجاجُ يسرحُ ويمرحُ، وكان الكبارُ يتجاذبون أطرافَ الحديثِ الّذي لا يخرجُ عن قطيعِ الأغنامِ؛ شَبِعَتْ أم لم تَشْبَعْ؟ وعن الحَرْثِ إذْ كان الفصلُ خريفًا إلّا نادرًا. وكان جدّي يستمعُ الحديثَ ويترشَّفُ رَشْفَةً من قهوةِ "الجَزْوَةِ" ويتبعُها بهزِّ رأسِهِ...
أمّا نحن صغارَ السّنِّ لا عملٌ لنا سوى الإنصاتِ وانتظارِ الأمرِ لتنفيذِ مَهَمَّةٍ أوكلتْ لنا. أخيرًا نطقَ جدّي سائلا: «كم السَّاعةُ الآن ؟»، ردّ عليه أحدُ الحاضرين قائلا : «إنَّها الرّابعة». اعتدل جدّي جالسًا ثمّ نظرَ إليَّ وقال: «مازال الوقتُ مبكّرًا "أيقنتُ حينها أنَّ أوّلَ مَهَمَّةٍ ستوكلُ إليَّ" قُمْ فأمسكْ ذاك الأرنبِ واحبسهُ في السِّجْنَةِ ليكون لنا عشاءًا، سيكونُ "عيشًا" ساخنًا». فما كان عليَّ سوى التنفيذِ دون مراجعةٍ ولا تماطلٍ، قبضتُ عليه وسجنته ثمّ جلست مكاني أستمعُ وأنتظرُ...
والجميعُ متحدِّثٌ ومنصتٌ؛ شدَّ انتباهنا مشهدُ ديكٍ عثرَ على حبَّةِ فولٍ، وهو يصيحُ بصوتٍ خافتٍ وكأنَّه يهمسُ في أذنٍ. كان جميعُنا ينتظرُ منه أن يأكلَ الحبّةَ فإذا بدجاجةٍ تقتربُ منه مسرعةً، انتفضَ باسطًا ريشَه وشرعَ بالدورانِ حول حبّةِ الفولِ وهو يصيحُ وكأنّ لسانَ حالِهِ يقولُ : «ابتعدي؛ ابتعدي إنّها ليست لكِ ولا أنتِ لها». ابتعدتِ الدّجاجةُ وراحت إلى حالِ سبيلِها علّها تعثرُ على شيءٍ يَجبرُ كبرياءها. لا يزالُ الدّيكُ على حالتِهِ كلّما اقتربت منه دجاجةٌ أو حاولت الدُّنوَّ من حبّةِ الفولِ. فجأةً تغيَّرَتْ حالةُ الدّيكِ فصارَ بلا صوتٍ وذابَ في ريشِهِ مُبتعدًا تاركًا الفُسحةَ لدجاجةٍ مُرقّطةٍ بيضاءَ عليها مَسْحَاتٍ حمراءَ وأخرى سوداءَ تمايلت في مشيتها ، عندها أيقنَ الجميعُ بأنّ حبّةَ الفولِ قد دنا أجلُها...
نطق جدّي والغضبُ يملأُ محيّاه قائلا : «قم بسرعةٍ وأطلقْ سراحَ السّبعِ وأْتيني بهذا الدّيوثِ وبالسِّكينِ حالا فلا زادَ اللهُ له في عُمرِه». أمسكتُ به ووضعتُه في السّجْنَةِ بعد أن أطلقتُ سَراحَ الأرنبِ السَّبعِ وهَمَمْتُ بإحضارِ السِّكِّينِ وإذا بالسّجينِ يصيحُ وكأنّي به يبعثُ برسالةٍ إلى الرقطاءِ يقولُ فيها :
بعثت إليك يا "قيقي" صياحًا...
لِمَا ألقاهُ منْ وجعِ الفِراقِ
فأولُ ما أصْدحُ نارُ صَدْري...
وثانيهِ غيابي وافتراقي
وثالثهُ قضى حبْسي وأسْري...
ورابعهُ شراب المرِّ ساقي
وخامسهُ متى يُطلقْ سَراحي؟...
وسادسهُ متى يُكْسَرْ وثاقي؟
وسابعهُ دنا أجْلي وموتي...
وثامنهُ جميلُ الحَبِّ راقي
وتاسعهُ متى عيني تَراكم؟...
وعاشرهُ متى يومُ التلاقي؟
دخلتُ النوّالة "المطبخ" أبحثُ عن السّكينِ فلم أجِدْ له أثرًا، سألتُ عنه جدّتي وأخبرتُها بنيّةِ جدّي في عشاءٍ ساخنٍ يحضّرُ على حسابِ لحمِ السّجينِ، وكان من جدّتي أن استعملت حقّها في النَّقضّ قائلةً : «أخبره بأنّ العشاءَ قد شُرِعَ في تحضيرِه وهو "العيش" كما اشتهيتَ لكن بلحمِ الخليع "القدّيد"». أخبرتُ جدّي بما كان، فأمرني بأن أُبْقيَّ على السِّجْنَةِ كما هيّ إلى غدٍ فقد يجيءُ غدٌ ومعه سراحْ أو الموتُ ذبحًا بسلاحْ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.