أهلا أعزائي القراء.
هذه القصة كانت قد نالت رضا وتشجيع الكثيرين عند نشرها قبل شهور. أعيد نشرها اليوم متمنيا أن تنال رضا وتشجيع آخرين.
☆ حب على الفيسبوك ☆
كتبت مرة على صفحات الفيسبوك هذه الجملة " إن الحب
الحقيقي رفع كما رفع الحياء،ولم يبق له أي وجود بين الناس " جاءت تعاليق كثيرة تشاطرني الرأي ، وتلعن الظروف التي جعلت الثقة تنعدم بين الناس ، فاختفى معها كل شيء جميل مثل الصداقة ، والحب ، والصدق . .
مر يومان ، وإذا بي أقرأ على صفحة بريدي الخاص في الفيسبوك هذه الجملة " صباح الخير أيتها الأخت ! أنا وسيم . إن الحب الحقيقي موجود ، لكن القلوب الطاهرة هي التي تعرف فقط طريقه !"
أجبت على الفور" وأين هي هاته القلوب الطاهرة ؟" ، فجاء الجواب كالتالي " أنا أيضا أبحث عنها !"
قلت له " أيمكن أن توضح كلامك ؟" ، أجاب " كلامي واضح ! أنا أبحث منذ زمن بعيد عن فتاة في قلبها ولو ذرة صدق لتكون شريكة حياتي ولم أجدها !"
أثار هذا فضولي ، فقلت له، وأنا أمزح " وماذا تعطيني لو ساعدتك على إيجاد هاته الفتاة ؟"
(لاأخفي عليكم أنني كنت أفكر في نفسي وأنا أوجه له هذا الكلام !) أجاب " ستكونين قد أسديتي لي خدمة لن أنساها ماحييت ، ولن أعطيك شيئا، بل سيكون أجرك على الله !"
فتحت عيني جيدا ، وتحرك شيء مابداخلي ، دون أن أدرك ماهو ، فوجدتني أقول له، وبدون شعور تقريبا:
" هل يمكن أن أتعرف إليك ؟ قدم لي نفسك إذا كان ممكنا ! " انتظرت قليلا ، وإذا بي أقرأ " اسمي وسيم ، عمري 30 سنة ، أعمل كمحاسب رئيسي بإحدى الشركات ، وراتبي الشهري يصل إلى 7.000 درهم ."
ياإلاهي ! أيكون هذا هو الرجل الذي حلمت به طوال حياتي ؟ أتكون الحياة قد ابتسمت لي حقا بعد طول الإنتظار ؟ لم أنته إلا بثواني قليلة من قراءة هذا "المساج" حتى جاءني مساجا آخر يقول فيه الشاب " وأنت، هل بإمكانك أن تقدمي لي نفسك؟ " قلت على التو " انتظر ! " ، ثم كتبت أقول " أنا فتاة في الثانية والعشرين من عمري ، اسمي منى ، حائزة على شهادة البكالوريا وبدون عمل . أمنيتي في الحياة أن ألتقي بشخص أحبه ويحبني ، وأنجب منه أبناء، ونعيش كلنا في حب وسعادة دائمين !"
طلب مني بعد فترة " من أي مدينة أنت ؟" ، قلت " الدر البيضاء " ، فرد يقول " وأنا كذلك من الدار البيضاء ". لم أتلق أي رسالة بعد هذا . ظللت أنتظر اليوم كله، والليل كله، وصباح يوم الغد، والمساء أيضا . . لا شيء ! كنت في كل مرة أقول لنفسي " ولم لا أرسل له أنا رسالة ؟" ، ثم أعود وأقول " لا ! ربما احتقرني ؛ ربما رأى في فتاة بدون شخصية، أو من أولئك الفتيات اللواتي يتحين الفرصة للإنقضاض على الرجال !" وفي تمام الساعة التاسعة ليلا ، وأنا في حيرة من أمري ، سمعت رنين الهاتف ، كانت رسالة ! بدأ قلبي يدق بطريقة غير معقولة وأنا أقول " هو ! " ؛ وكان هو بالفعل ! أرسل يقول " مساء الخير ! مارأيك أن نلتقي ، من أجل مزيد من التعرف ، بعضنا على البعض ؟ " أجبت قائلة " هل ترى أنه من الضروري أن نلتقي ؟ "
لم أنتظر كثيرا لأقرأ رده " كما تحبين ، والخير فيما اختاره الله. هذا رقم هاتفي ؛ فكري جيدا واتخذي القرار الصائب. "
والتقينا ! كان يوم أحد . وأصبحنا نلتقي كل يوم أحد . نتجول ، نجلس معا في إحدى المقاهي ، نتجاذب أطراف الحديث . . كان شابا مهذبا ، وسيما، يحب النكث ومناقشة المواضيع المختلفة ؛ وكان من جهته يرى في الفتاة المثالية ، والتى طالما حلم بأن يلتقي بواحدة مثلها ، ويحبها ، ويكرس حياته من أجلها ، مما دعاني أن أقول له ذات يوم ، وأنا أمزح " حبني ياأخي كما تشاء ، واتركني أحبك أنا أيضا !" لم يمر على تعارفنا أكثر من شهر ، كانت فيه قلوبنا قد ألفت بعضها ، وكانت تنتظر بفارغ الصبر يوم الأحد لتنصت إلى بعضها ، ولتخفق من شدة الحب الذي أصبح يملأها .
لم أعد أطيق البعد عنه ، وكان الأمر مماثلا بالنسبة له ، مما جعلنا نضيف إلى يوم الأحد يوما آخر وهو يوم الخميس. أصبح وسيم كل شيء بالنسبة لي : صباحي ومساءي ، ليلي ونهاري ، شمسي وقمري . . أصبحت أدرك أن وجودي ليس له ، ولن يكون له أي معنى بدون وسيم ! إنه أول رجل أحببته في حياتي ، ولن أحب رجلا سواه ماحييت !
مر عام بأكمله على تعارفنا ، وتوطدت علاقتنا ، فأصبحنا نحيا بالحب ومن أجل الحب ؛ به نلتقي وعليه نفترق ! لم يكن وسيم من أولئك الشباب الذين يتحينون الفرصة لاقتياد الفتيات إلى بعض المنازل مثلا ، من أجل إرضاء رغباتهم الجنسية ! أذكر مرة أن دعوته لنذهب إلى السينما من أجل مشاهدة بعض الأفلام ؛ أتدرون ماذا قال لي ؟ قال " إن الظلام سوف يوحي لنا بأشياء لم تكن في حسباننا ، بحيث لن يصبح من المستبعد أن أقبلك ، أو أمرر يدي على بعض الأماكن الحساسة من جسدك ، وربما لن تمانعي ، اعتقادا منك أننا نفعل ذلك باسم الحب ، فستكون بداية نهاية حبنا الذي سيضمحل ويضعف ليفسح المجال أمام شيء آخر اسمه الجنس ؛ وهذا شيء لاأحبذه لأنه سيهدم علاقتنا، وربما جعلنا نبتعد عن بعضنا البعض ، بعد أن نكون قد أشبعنا فيما بعد، و على مر الأيام غريزتنا الحيوانية ! " سكت برهة ، ثم أضاف " سوف نذهب إلى السينما بعد أن نكون قد أصبحنا زوجين إن شاء الله !" قلت " زوجين ؟! " قال ، وهو ينظر إلي بعمق " وهل تظنين أن كل هذا الحب الذي أصبح يؤلف بين قلوبنا سينتهي ويتبخر ذات يوم ، دون أن يفضي إلى الزواج ؟! "
ياإلاهي ! أين أخبؤك عن الموت يا وسيم ؟ هذا أروع من أن يصدق !
مرت ثلاثة أيام دون أن نلتقي، وجاء يوم الخميس ؛ أرسل وسيم يقول لي " صباح الخير عزيزتي ! مارأيك أن نحتفل اليوم بمرور عام على تعارفنا ؟ " أجبت على الفور " هذا جميل جدا ! والله إنها لفكرة رائعة ! " أضاف يقول بعد ذلك " لنلتق إذن في مقهانا المعتاذ " إيدين أيس " على الساعة الخامسة تماما"
قلت ، وأنا أختنق من شدة الفرح " وأنا سأكون هناك في الموعد ! "
كان الطابق الأول من المقهى مملوءا كعادته.كان ندل المقهى يعرفونني ويحترمونني. قال لي أحدهم ، وهو يهيأ لي كرسيا" تفضلي ياآنسة ! " ثم أضاف ، وهويبتسم " عصير ليمون كالعادة ! " وافقت بإيماءة من رأسي وأنا أشكره ، ثم جلست . أرسلت على التو رسالة لوسيم أقول فيها " أهلا وسهلا ! أنا أتواجد الآن بالمقهى . لقد رحب بي أحد الندل وراح ليأتيني بعصير ليمون ! "
لم أتلق جوابا منه ، واعتبرت الأمر عاديا، ما دامت عقارب الساعة تشير إلى الخامسة وخمس دقائق؛ فلربما يوجد هو الآن بالقرب من المقهى ، ولا داعي أن يجيب !
انهمكت في القراءة على صفحات الفيسبوك ، أقرأ مابين نكث ومعلومات ، ولم أنتبه إلى النادل الذي وضع عصير الليمون أمامي وانصرف في هدوء . رفعت رأسي حينها وأنا أتساءل " أينك ياوسيم ؟ لم أعتد منك هذا التأخير كله ! "
كانت عقارب ساعتي تشير إلى الخامسة والربع . عدت إلى الفيسبوك. انهمكت في القراءة. ماذا ؟! إنها الخامسة والنصف ! ياإلاهي ! بدأت بالفعل أقلق من أجل وسيم ، مما دعاني أن أكلمه على الهاتف . إنه لايجيب !! أعدت المكالمة مرات عديدة، وكنت في كل مرة أسمع الصوت المسجل يقول لي بأن هاتف مخاطبي غير مشغل ! أرسلت الرسالة تلو الرسالة، أعدت المكالمة مآت المرات . . وسيم لا يجيب ! بقيت على هذه الحال حتى الساعة السابعة مساء ، دون أدنى خبر عنه !
مر أسبوع على اختفاء وسيم ! أسبوع لم أتوقف فيه عن البكاء . وارباه ! اختفى وسيم كما تختفي الشمس في فصل الشتاء !
كان يسكن وحده في إحدى العمارات ؛ ذهبت في اليوم الثاني من اختفاءه وسألت بواب العمارة ، فقال لي بأنه لم يره منذ صباح الخميس . تلفنت بعد هذا إلى الشركة التي يعمل بها ، فقالوا لي بأنهم لايعلمون عنه شيئا ، وأنه لم يحضر إلى العمل اليوم الجمعة . تجرأت ، ثم ذهبت أسأل عنه في مخفر الشرطة ، فقيل لي بأن هذا اﻹسم غير موجود عندهم . ذهبت بعد هذا كله أبحث عنه في معرض الجثت بمستشفى ابن رشد ، فلم يكن بين الموتى . وكانت آخر خطوة اتخذتها للبحث عنه أن ذهبت في اليوم الثالت من اختفاءه إلى المقبرة المحسوبة على الحي الذي يسكن به ، وأخذت أبحث بين القبور التي لم يمر على دفن الأموات بها أكثر من أسبوع ، فلم أجده بينهم .
رفعت عيني إلى السماء ، وقلبي يعتصر من شدة الحزن ، ثم أجهشت بالبكاء وأنا أقول " يارب ! إن كان وسيم حيا فأعده إلي ، وإن كان ميتا ، فألحقني به في القريب العاجل ."
مرت شهور وشهور ولم يظهر وسيم . أصبح الحزن قبلتي وملاذي ، أختبىء فيه من سراب الحياة وحقيقتها المزيفة ، وأجد فيه متعة غريبة لايشعر بها إلا من أدمى الفراق قلبه مثلي ؛ متعة كلها بكاء وكآبة وتشاؤم . . أصبحت أتمنى الموت الذي لايأتي وأكره الحياة التي أخذت مني وسيم ، وسلبتني عقلي وروحي ؛ روحي التي ودعت كل شيء جميل، وتخلت عن كل حلم مشروع . الآن بدأت أفهم لم يتألم البعض عندما يسمعون " عبد الحليم حافظ " يقول ، وهو يغني " وداع يا دنيا الهنا ، وداع ياحبي ياأحلام ، ذا عمر جرحي أنا ، أطول من الأيام " ، أو عندما يقول أيضًا " يافرحة كانت ملية عيني ، واستكثرتها الدنيا علي "
لاأخفيكم القول ، بدأت أفكر في وضع نهاية لحياتي التي أصبحت خالية من كل معنى ، لولا لطف الله بي ؛ لقد كان إيماني بالله قويا ، وكنت في كل لحظة ضعف أتذكر الحديث الشريف الذي يقول بأن كل من رمى نفسه ففي النار يرميها ، وكل من قدف نفسه ففي النار يقدفها .
بقيت على هذه الحال ، تتجاذبني مختلف الأفكار السوداء ، حتى جاء فجأة يوم . . نعم ، يوم عادت فيه روحي إلى جسدي وأحسست أني أولد من جديد ! يوم تلقيت فيه رسالة تقول " أهلا وسهلا عزيزتي ! أنا وسيم ! "
ماذا ؟! وسيم ؟! هذا شيء لايصدق !!
أجبت على الفور " أنت وسيم ؟! أحقا أنت وسبم ؟!"
جاء الجواب كقطرة الغيث التي تحيي الأرض بعد موتها " نعم حبيبتي ، أنا وسيم ! أنا الذي يحبك ويموت في . . ذباذيبك ! "
اغرورقت عيناي من الدمع وكدت أ سقط من طولي ، وأنا أشعر وكأنه سيغمى علي ، لكني تمالكت أعصابي وأخذت أصرخ في كل أرجاء المنزل ، وبأعلى صوتي " وسيم حي ! وسيم حي ! "
والتقينا !! . . كانت الفرحة تغمرنا ، ونار الشوق تتأجج في قلوبنا ! ضمني وسيم إليه ووضع وجنته بلطف على وجنتي ، فاختلطت دموعنا في صمت وأحسسنا أن حبا جديدا يولد في أحشاءنا . همس في أذني " أحبك ! " ؛ قلت بصوت خافت " وأنا أيضا أحبك ! " كانت فرحتنا لاتوصف !!
سألته بعد أن جلسنا في مقهانا المعتاذ عن سبب هذا الإختفاء فأجاب ، وهو يعتذر عن كل الآلام التي سببها إلي أنه كان يريد أن يتأكد - وبعيدا عني ! - من حقيقة شعوره تجاهي ، حتى لايقع لنا ماوقع للكثيرين الذين وقفوا في وسط الطريق ، ثم راح كل منهم إلى حال سبيله !
مصطفى دهور. أستاذ اللغة الفرنسية.
الدار البيضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.