حديث الجمعة بقلم علي الشافعي
شكرا بابا قصة قصيرة
يوم تشريني , تسللت فيه اشعة الشمس بخيوطها الذهبية الدافئة وسط سماء ملبدة بالغيوم طوال العام , فتحت لها ذرعيّ وانا اطير من الفرح , احتضنتها واحتضنتني , قبلت منها الراس والوجه والجبين , فرّت دمعة وحبست الاخرى , وسط اختلاط مشاعر اللحظة بذكريات الامس , ربتُّ على ظهرها ثم تركتها تكمل فرحتها بين امها واخوتها , واطلقت لذاكرتي العنان في احداث كأنه مر عليها يوم او بعض يوم :
قطعة ربانية التكوين ملائكية القسمات تناولتها بين يدي , تأملتها !! كل ما فيها صغير وجميل ؛ رأسها وجهها عيناها انفها فمها يداها قدماها , ضممتها الى صدري وقبلتها وخرجنا بها انا وامها من المستشفى الى السيارة منطلقين الى لبيت والفرح يغمرنا , متعجلين الوصول لنزف البشرى لإخوتها .
وصلنا البيت فاستقبلنا بحفاوة , ثم بدا القوم يختصمون ويتسابقون على حملها , ثم يتخيرون لها من الاسماء ما لذ على الاسماع وطاب في الافهام , قلت : لا تتعبوا انفسكم , انا من سيسميها . ايامها كان الناس يتداولون اسم سمو الاميرة ( هيا بنت الحسين ) وفوزها في سباق الخيل , حتى اطلقوا عليها لقب (الفارسة الهاشمية ) قلت : وجدتها سأسميها على اسمها , فان لم تكن فارسة على حصان , فلتكن فارسة في العلم والبيان . احببناها كما لو كانت اول العنقود رغم انها اخره , ربما لأننا لم نسمع في بيتنا صراخ وليد منذ خمسة اعوام , تلك السمفونية التي اعشق .
عاشت طفولتها وادعة هادئة لا يكاد يسمع لها صوت , تجلس ساعات طوال وحيدة متلهية بألعابها , كان عندنا ايامها سيارة ستيشن , فكنت اصحبها معي اينما خرجت , كانت تحب الجلوس في صندوق السيارة طوال الرحلة طالت ام قصرت , تلعب بما توفر امامها من العاب , وتتابع معالم الطريق , وفرنا لها فرشة بمخدة وغطاء وبعض الالعاب , فاذا ما ملّت اللعب غطت في نوم عميق .
لم تكن تستسيغ اللعب مع اخوانها وكذلك هم , نظرا لفارق العمر بينها وبينهم ,ولان كلا منهم مشغول بواجباته , كانت احيانا تملّ الوحدة فتطلب منهم ان يشركوها في العابهم فيرفضوا بحجة انها صغيرة ولا تعرف ان تلعب فتخرب اللعبة , فتاتي الينا شاكية باكية , فنصيح عليهم احيانا , واحيانا تربت الام على ظهرها وتقول لها : لا عليك تعالي نلعب انا وانت (العجانة) و(حدارجة بدارجة ) وهما لعبتان من التراث الفلسطيني تعتمدان على عد الاصابع مع الغناء . فاذا ما اكتفت من امها اتت الي لترتحلني , فاردفها على ظهري , وامسك بيديها بين اكتافي واغني ( نيخ يا جملنا نيخ , جملنا محمل بطيخ).
كان عمرها سنتين حين بدأت ترافق اخوتها الى دكان جارنا , وهو رجل كبير في السن فتح دكانا متواضعة لخدمة اهل الحي والأطفال خاصة , فاعتاد الاطفال على الذهاب الى دكانه لشراء الحلوى والشبسات والعصائر والمثلجات , او بعض ضرورات البيت . عدت يوما من عملي لتروي لي ام العيال اشد نصف ساعة رعبا في حياتها كلها , حيث ان الصغيرة غافلت امها اثناء انشغالها في المطبخ وخرجت , في ذلك الوقت يكون جميع اخوتها اما في المدارس او الجامعات , ولا يبقى في البيت سوى الام والطفلة , فأخذت الام تبحث عنها وتصيح وتُولوِل وتنادي عليها بحركات جنونية , بعد ان تأكدت انها ليست في البيت , الى ان اسعفها عقلها فنادت على جارنا صاحب الدكان , وطلبت منه ان يبحث عنها , ذلك انه في العادة الرجل الوحيد المتواجد في الحي في الفترة الصباحية , حيث رجال الحي في اعمالهم , ليجدها تجلس بكل براءة امام دكانه منتظرة ان يفتح , فعاد بها تحمل قطعة من البسكويت وتضحك .
درجت هيا قليلا فدخلت روضة الاطفال , نذكر انا ووالدتها اول انشودة عادت من الروضة ترددها حيث طلبنا منها تكرارها مئات المرات :
روضة البيارق ما احلاها انا برعوم فوق رباها
تحيا تحيا روضة البيارق
وكم كانت سعادتنا وفرحتنا بها وهي تردد سورة الاخلاص بلكنتها الطفولية البريئة .
دخلت هيا المدرسة وتدرجت في صفوفها , ومرت الايام وتزوج الاولاد والبنات ففرغت الغرفة عليها فعادت تعاني الوحدة مرة اخرى , كنا نرقبها ونتوجع لأجلها لكن ما باليد حيلة , الا ان اخوانها عوضوها عن ذلك حبا ومودة فأصبحت دلولة العائلة ودلوعتها , اغدقوا عليها الهدايا واقاموا لها المناسبات , وكان لها في كل نزهة يقوم بها احدهم نصيب . تدرجت في صفوفها الى ان وصلت ساعة الاختيار , فقد نجحت في الثانوية العامة وجاءت تطلب راينا في اختيار التخصص المناسب في الجامعة , قلت : يا ابنتي نحن لا نفرض عليك تخصصا ما , فانت ادري بميولك وقدراتك , ولكني كنت اتمنى ان يختص احد ابناني في اللغة العربية وآدابها , فيرث مكتبتي الادبية والفكرية , ويتفوق على ابيه ويحقق مالم يستطع هو تحقيقه , قالت بعد تفكير : اما التخصص فأعدك , واما التفوق عليك فلا اظن , فالعين لا تعلو على الحاجب .
انهت هيا دراستها الجامعية وحصلت على درجة البكالوريوس بتقدير ممتاز , ثم تابعت دراستها , وها هي اليوم تقف شامخة امام اللجنة لمناقشة رسالتها الجامعية , لتحصل على درجة الماجستير في اللغة العربية ولسانياتها , وكم كنت سعيدا وانا اتابع المناقشة عندما علمت ان اطروحتها هي الاولى من نوعها على مستوى الاردن , ثم لحظة اعلان النتيجة ومنحها الدرجة , وسط تصفيق الجميع . وقفت لتقول : شكرا بابا على كل شيء .
اقول : شكرا بابا , الحمد لله ادخلت البهجة على قلوبنا , فاليوم اطمئن الى انني حققت امنية حلمت بها طوال العمر , مبارك يا ابنتي :
يا زينة الزينات يا قرة العين
يا تالي العنقود يا روح ابيها
يا اللي غلاها في القلب والشرايين
تسلم حبيبتنا وتسلم ايديها
يوم مبارك يا غلا الروح والعين
هاي الشهادة يا ابنتي تستاهليها
الفرحة هاذي انتظرها من سنين
عقبال ما نفرح باللي تليها
يحميك ربي من عيون الحسودين
ويبارك الخطوات اللي تخطيها
حبيبة بابا عقبال الدكتوراه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.