رواية قصيرة "جبلية من بنات مزيغ"
الفصل الأول
ولحسن حظها، وجميل طبعها؛ سرعان ما وقع عليها الاختيار، واستقر عليها الرأي؛ ليؤتى بها من بعيد وعلى جناح الطائر.
فكانت ذلك البديل الذي لا مناص منه؛ الذي يقيهم كلام الناس وكثرة القيل والقال؛ والذي يعفيهم من وزر أب بلغ من الكبر عتيا.
ترمل حديثا، ولم يبق له من سند يتكيء عليه ويستحمل وهنه وهبله غيرهم، ومن ثم اصبح يخاف عليه الوحدة والضياع؛ فبات لزاما عليهم تدبر أمره الآن وقبل غد.
فكان التناوب عليه فكرة؛ سرعان ما لقيت الكثير من التحفظ، وبالتالي لم يلتفت إليها؛ لتؤود في مهدها، وتحل محلها الإيواء بدار العجزة كمجرد اقتراح؛ انتفض لأجله الكل بين من تقبله على مضض منه ومن رفضه جملة وتفصيلا.
احتدم النقاش، وبلغ أشده إلى حد التراشق بالألسن؛ لتلوح في الأفق بوادر الشقاق والنفاق، وكأن ما يجمع الأخوة ما هو إلا بنيان من رمال؛ سرعان ما ينهد من أول هبة ريح.
تعالى اللغو واللغط؛ ليصل إلى مسامع ابيهم، فلا هذا ولا ذاك، رضخ للآخر أو أقل ما يقال تبنى حلا وسطا يعفيه مغبة التعصب؛ لينفض مجمعهم على لا شيء يذكر.
ساعتها؛ استجمع الأب قواه، وانتفض من مكانه مسرعا؛ ليطلع عليهم من وراء الباب، ويخلص الأمر عنده وحده دون سواه، انهى به حالة الانقسام، واوقف به ذلك النزيف وما يجره من شنآن بين الأخوة.
فكان الاقتراح منه، وبعد تردد على مضض منهم؛ جوبه الاقتراح بالإذعان، فالسمع والطاعة.
الفصل الثاني
قبلت به، وارتضته لنفسها زوجا؛ وحسبها في قرارة نفسها، أنها اكتفت كفاية من الفراش بزواجها الأول؛ لتخوض غمار تجربة بلا طعم ولا ملح مع رجل لا يعيبه ماله في شيء؛ اللهم سنه.. يكاد فيه الكبر أن يرديه جثة هامدة في أيتها لحظة كانت.
تم القران، واقتصر على أهاليها وأقرب المقربين منهم مع الحرص كل الحرص خلافا لمبدأ علانية الزواج على السرية التامة؛ وكأنهم يخافون عليه الفضيحة بشيوع الخبر وتداوله.
جرت المراسيم في صمت تام، ساده الترقب والانتظار حتى أصبح يخيل للمرء ان تمة مأتما يقام هناك، يستدعي التكتم وتقديم التعازي ليس إلا.
لم ترتض الأم لابنتها شبهة تبقى أبد الأيام الماجية حال لسان ساكنة
الدوار.
وفي تحد سافر، أطلقتها زغردة مدوية كسرت بها حاجز ذلك السكون المطبق؛ رفعت من خلالها ذلك اللبس المصطنع الذي مافتيء أولاده يتوارون من ورائه؛ لتعقبها على التو دقات الطبول وأهازيج الجبال ورقصات احيدوس، سرعان ما استقطب ساكنة الجوار، لينقلب السحر على الساحر، ويتحول المستور إلى عرس بحق وحقيقة.
لم يخل العرس من تلاوة الذكر الحكيم سيرا على عادات أهل البلد؛ ليختم في وقت متأخر من ليلة كان القمر فيها بدرا، بتقديم ما لذ وطاب من الطعام والشراب، أفاض واستفاض عن العادة والمعتاد.
تفرق الجمع على قراءة الفاتحة والدعاء للعروسين باليمن والبركات؛ ليمضي كل واحد إلى حال سبيله.
باتت أول ليلة لها على فراشه جنبا إلى جنب. حاول خلالها المسكين جاهدا استرجاع البعض من همته؛ لامس..داعب.. إلا أنه لا شيء من هذا وذاك حرك فيه ولو البعض من مكامنه؛ ليستدير في آخر المطاف على جنبه الايمن، ويستسلم لشخير طويل ونوم عميق.
الفصل الثالث
لم تتأسى على نفسها أو ندمت على فعلتها، وهي ترى الخير كل الخير يحف بها.
وكأنه نزل عليها ومن حيث لا تدري دفعة واحدة؛ لينتشلها من براثن الفقر والتهميش، وينزلها منزلة سيدة بامتياز؛ مال وجاه، لتكتفي منه بالقليل.
لمسات ومداعبة..، ارتقت من خلالها لتبلغ مرادها وتقضي وطرها؛ لتقوم في الصباح على سفرة فطور أعدت خصيصا على شرفها، تحتسيها بالهناء والشفاء وجها لوجه مع زوجها.
جبلية من طينة بربرية؛ أنفة وعزة نفس، ابنة بلد وبامتياز؛ عمر اسلافها الأرض من زمن بعيد وأبوا إلا أن يحافظوا على هويتهم، ويتمسكوا بالتربة التي انجبتهم.
اعتزلوا الغزاة ونأوا بأنفسهم خارجا بأعالي الجبال؛ ليضعوا حدا فاصلا بينهم وبين الطامعين.
استعصوا عليهم، وعلى أي اختراق من شأنه أن يفسد عليهم لغتهم بدخيل أو يدنس عليهم نسلهم بهجين، وكأن الفرد منهم دما نقيا؛ الحفاظ عليه أولى من إراقة قطرة دم منه في مقابل حفنة رمل لا تغني ولا تسمن من جوع، وأرض الله واسعة تجب كل مخلوق ولله الملك من قبل ومن بعد.
الفصل الرابع
ترملت في سن مبكر لتقبع بالبلد، وسط ذويها معززة مكرمة؛ والعين عليها مخافة أن تزيغ عن جادة الصواب، وتمرغ وجه أبيها في التراب.
تقضي طول نهارها بين أشغال البيت ورعي الماعز؛ لتبيت ليلتها على أهازيج عذارى الحي، والصدع على الطبول، حيت الهواء الطلق تحت ضوء القمر وخرير المجاري وحفيف الأشجار، ولا من أحد يعكر عليها صفو راحتها وراحة أهل الحي، اللهم الا اذا طلع عليهم خنزير من هنا وهناك.
ساعتها، ينقلب مجمعهم هذا الى مواجهة بالصياح والخبط على العصي؛ لعل هذا الوحيش يعود أدراجه من حيت أتى، ومن ثم تسلم محاصيلهم الزراعية من عبث محقق، يفسد عليهم موسما بالكامل.
ولا حيلة لهم حيال هذه البلية إلا الصبر والمداراة؛ وعين السلطة عليهم بالمرصاد، والويل ثم الويل إذا مس بمكروه، وفي غياب متهم صريح؛ فإن العاقبة تكون عقابا جماعيا تستخلص قيمتها نقدا وان أمكن عينا.
وكأنه لعنة ابتلوا بها عنوة يراد بها باطل؛ اختراق ودفع بهم خارج الاسوار إلى حيث المدينة ودور الصفيح؛ لترك الخنزير يتكاثر ويرتع حرا طليقا بالمكان؛ إلى حين إطلالة سيد مدجج بالسلاح والكلاب، متعطش لإراقة الدم، وأكل لحم الخنزير .
الفصل الخامس
نظر إلى عينيها بحنية، وكأنه يسبر اغوارا افتقدها بالتربة هناك. بسط كلتا يديه نحوها والبشاشة تغمر محياه، وتردي وجنتيه توردا واحمرارا.
لم تقو على مجاراته، غلب عليها الحياء، خفضت من بصرها؛ وبالكاد ردت عليه بابتسامة خجولة، وانحنت على يده مقبلة اياها.
ولم تدري إلا وهي تستسلم لمشيئته وتبادله الهمس واللمس بأحسن واكثر منها.
أحس بشيء غريب يسري بجسده، سرعان ما اهتز له كيانه؛ ليستفيق ذلك الراقد في السبات العميق، وكأن حادثة الأمس ما هي إلا مجرد حادثة عرضية قد تحدث لأي كان في أول يوم، يدخل بها زفة على عروسه.
الفصل السادس
ابن بلد، شاءت الأقدار أن ترمي به من اعالي الجبال؛ ليجد نفسه وفي غفلة من عيون السلطة على قارعة الطريق، يطلب توصيلة بالمجان.
ركب جنح الظلام وأسلم رجليه إلى الريح، يطوي المسافات ويقطع الوديان لا يلوي على شيء؛ اللهم الإفلات بجلده من سوط المخزن، والزج به بتهم ملفقة أبسطها المس بالمقدسات.
لم يهدأ له بال، ويأمن على روحه حتى وطئت قدماه السفح، ويحل بالمدينة ويضيع وسط الزحمة؛ فكانت أول محطة استوقف عندها موقفا لليد العاملة الرخيصة.
لم يتأخر الرد عليه كثيرا؛ بنيته الجسمانية سرعان ما زجت به في اشغال البناء، ليتدرج وبعد مدة من الكد والجهد، أبان فيها عن تحمل وصبر منقطع النظير من حمال، طالب عيش إلى معلم صنائعي في البناء.
لزم مكانه وداع صيته؛ ليستقل بنفسه، ويعمل لحسابه الخاص.
أوفى الزبائن حقهم في الخدمة والتوقيت؛ لينال عن جدارة واستحقاق أغلب الطلبيات.
ودارت الأيام، وابتسمت له الدنيا وغدا ذو مال؛ فناسب الأكابر لينضاف المال إلى الجاه؛ أهله وبامتياز من الاستفادة من صفقات كبرى لم تزده إلا ثراء.
إلا أن تمة شعور غريب كان يخالجه، ويقظ مضجعه، وينأى به بعيدا غريبا عن الدار؛ مردها علاقته بأولاده.
لم تكن له على أولاده اليد الطويلة؛ لينعكس ذلك جليا بعد ترمله، إذ سرعان ما تفرق الأولاد من حوله، واستأثر كل واحد منهم بحتة من أمواله؛ ليجد نفسه وحيدا ضائعا، وكأن ما كان يجمعهم به، مجرد فراغ بدون طعم أو لون يذكر.
الفصل السابع
ملأت عليه البيت دفئا وحنانا، أحيت شبابه، لازمته كالظل، لا تبرحه ولا تفارقه أبدا أينما حل وارتحل.
لم ترفض له أي طلب؛ يكفيه إشارة منه ليجدها على السمع والطاعة، تستسلم عن آخرها لمشيئته.
استغنت عن الخادمة؛ لتكون سيدة بيتها وتروض ذوقه على أطباق بلمسات جبلية، تعيده من خلالها إلى أصل الحكاية.
اعفت السائق والبستاني؛ لتختلي به وتنفرد به وحدها دون سواها ولتكون له نعم الانيس والرفيق.
تأبطت ذراعه، وأبت إلا أن ترافقه مشيا على الأقدام؛ لتتملى بصحبته وبجولاته الصباحية وطلعاته المسائية.
لم يبخل عليها في شيء، شاركها أشغال البيت، طاوعها في لغة لا تفقه سواها؛ استرجع من خلالها ماضيا أتت عليه آلة المخزن، فكان الشتات عن الأصل، ليرتد اليه بعد عمر طويل من خلال هذا الزواج المبارك؛ وكأن يدا انتشلته من الضياع إلى الاحضان.
لم يمض عليها الكثير: قيء ودوران حمل لاحت بوادره، لم تستطيع حجبه عن الأنظار، ليطير بها وعلى الطائر الى اقرب نقطة طبيب؛ فكانت فرحته لا توصف: توأمين دفعة واحدة أنثى وذكر خيار ملك.
يالها من هدية ربانية، أبى إلا ان تكون ولادتهما بتلك القرية التي انجبته، ليحزم امره في ذلك اليوم قبل الغد وعلى الفور؛ ويسافر بها جنب أهلها ليستقر هناك بالمرة.
الفصل الثامن
اشتد غيظ الاولاد عليه، ولم يجدوا من يصبون عليه واجم غضبهم سواها.
ومن دون مراعاة منهم لحرمة أبيهم،
انفجروا في وجهها ولم يتورعوا؛ ليشبعوها سبا وقذفا، ويرمونها بأقبح النعوت لديهم: جبلية، انتهازية...
وأخيرا خرجوا عن صمتهم، ليعلنوها قطيعة بالمرة؛ وحسبهم في ذلك وريثا جديدا خطف منهم الضوء، لينضاف اليهم ويسلبهم نصيبا في الميراث؛ وكأنهم لا ينظرون إلى أبيهم إلا على اساس أنه جسد بلا روح ليس إلا، متى يحين أجله لينهشوا لحمه وشحمه لا أقل ولا أكثر.
وضعت حملها وصدق الطبيب، فكانا اثنين يكاد الشبه يخطف الأبصار، وكأنهما حبة انشطرت على نفسها على اثنين، جمال ولا أبهى؛ سبحان الخالق الرازق.
اقبل عليهما والدمع ملأ عينيه؛ خانته الكلمات؛ اجهش بالبكاء، جلس قبالتهما يتملى بطلعتهما؛ وكانه لم يسبق له ان تذوق طعم الخلفة أبدا.
ذبحت الذبائح، وصفت الموائد، وعلت الزغاريد، وصدعت الحناجر بالأهازيج؛ فكان يوم عيد اجتمع عليه أهل الحي وأهل الجوار ولسان حالهم يهتف: مبروووووك والف.
حز في نفسه ما أصابه من أولاده.. حاول اصلاح ذات البين عبثا؛ ليلتفت أخيرا إلى نفسه، وينغمس في حياته الجديدة.
نسج علاقات من المودة والمحبة مع أهل الحي وأهل الجوار، حتى أصبح مضرب المثل في الكرم والجود والسخاء، تاركا الباب على مصراعيه وعلى الرحب والسعة لكل طارق منهم.
الفصل التاسع
وفي ليلة ليلاء، استفاق أهل الحي على عويل امرأة، سرعان ما تبينوا مصدره؛ فهبوا زرافات يتصيدون خبره.
فإذا بهم ينعون رجلا عظيما، كان بالأمس القريب حاضرا كريما مبتسما هنا وهناك، حسب شهادة هذا وذاك.
لم تمهله المنية، واخذته على غير غرة من الجميع؛ ليسلم روحه إلى الباري عز وجل.
اجتمع عليه اهل الحي، وقد علت وجوههم سحنة حزن واسى، قدموا فروض التعازي وعجلوا باكرام الميت بالإسراع بدفنه؛ أقاموا عليه صلاة جنازة مهيبة وشيعوه الى متواه الاخير، بالتربة التي انجبته.
حضر الاولاد وياليتهم لم يحضروا؛ ليحتدم الصراع بينهم، ويتفرقوا كما بدأوا أول مرة؛ ليجتمعوا ويتفقوا هذه المرة على شيء واحد، يكنون من خلاله العداء لأم ثكلى واخوة صبيان، وفي نيتهم ازاحتهم، والاستئثار بالميراث وحدهم دون سواهم .
جبلية على نياتها، يكاد الأسى يميتها ويذهب ببراءتها، وهي تحاول جادة إحقاق حق وقع الترامي عليه، وسلب منها ومن أولادها في تركة الهالك ظلما وعدوانا.
ولا حيلة لها سوى اتباع مساطر غريبة عن اعرافها، ارهقت كاهلها لا تدري كنهها؛ وكأنها وضعت عنوة وحكرا على أقلية يتصيدون من خلالها امثالها...
وعلى لسان احد الظرفاء منهم يقول: يكفيني قضية واحة لآكل منها عمرا طويلا...
لتبدأ المسكينة رحلة طويلة بين دواليب المحاكم، وسماسرة مالين الوقت.
كشفت النقاب على ذلك الوجه البريء، وشمرت على ذراعيها، وانطلقت تبحث عن مجهول وسط زحمة لا تخلو من ذئاب؛ الرذيلة والفضيلة عندهم سيان.
ليبقى الحال على حاله، ولاشيء حسم هذه المرة وبالمرة.
تأليف: أ. عبدالاله ماهل / المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.