السبت، 19 يناير 2019

الأعرج المنقذ بقلم مقدير إبراهيم


قصة قصيرة 
الأعرج المنقذ
"""""""""""""""""""""
جرى مسافة تقل عن الميل في ممر ترابي بين الحقول ،به بعض الأشواك والأوحال ...والأم تراقبه وتوبخ نفسها أن أيقظته متأخرا ، وراحت تلاحقه بمقلتيها مطلة من زريبة الدار وبدا عليها قلق وتوتر لم تعهدهما...كانت الحافلة المدرسية تمر كعادتها لتجمع تلاميذ البادية نحو مدارسهم بالمدينة ....يومها لم يهدأ للأم بال حتى رأته يهم بقطع الطريق وفجأة صاحت منتفضة ثم سقطت مغشيا عليها...
أفاق ركاب الحافلة وسائقها على صوت الفرامل ....ونزل الجميع في لهفة بعد أن صدمت الفتى سيارة كانت تطوي الأرض طيا...ثم نزل صاحبها متكبرا متعجرفا خاصة وأنه أيقن أن الفتى لم يمت ، وأن إصابته لا تبدو خطيرة ،وذلك ما أثار حفيظة وغيظ مرافق التلاميذ فاشتبك معه ....
سرعان ما اجتمع الكثير من الناس حول الحادث ...والطفل يتأوه ويمسك ساقه اليسرى وصورة ذاك المغرور لم تفارق خياله ....ثم حضر الوالد بعد أن أسعف الوالدة وهدأ من روعها ...
حُمل الطفل في عجالة إلى المستشفى ليقضي فيه ما يزيد عن الأسبوع ثم يغادره أعرجا بعد شتى المحاولات اليائسة لعلاج ساقه ....
لم يكن المبلغ المقبوض من التأمين كافيا لنسيان إعاقة الطفل المجتهد الخلوق ...واحتار الوالد في مستقبل دراسته وبعد المنزل عن مدرسته ...
جرى في البيت حوار ساخن بين أم تريد أن تستقر بالمدينة لمصلحة ابنها وبين والد لا يحسن سوى الحلاب والصر ..
واتفق جميع من بالبيت على الرحيل وكل يسعى لقوت يومه في المدينة العامرة ...
باع رب البيت كل ما كان يثغو أو يخور في تلك الربوع ليبتاع منزلا قريبا من المدرسة ويزود صغيره المدلل بعكاز طبي ...
تمر السنون ويبرع الطفل الأعرج في دراسته رغم حرمانه من الرياضة واللعب مع أترابه ..لكنه عوض هذا النقص في ابداعات أخرى كالخط والرسم ...
في البدء كان الوالد يعاني لقلة حيلته في المدينة ، حتى تعلم حرفة وقته شر الفاقة وذل المسألة ،وكان لا يدخر جهدا في تلبية حاجيات وطلبات ذاك التلميذ النجيب. الذي طفا تفوقه وعبقريته على كل أبناء المدرسة وصفوفها من الابتدائي إلى الثانوي ...
تعاقبت انتصارات ذلك الفتى حتى أصبح علما في المدينة يشار إليه بالبنان ....وسرعان ما شهد الجميع حفل تخرجه طبيب أعصاب وكان الأول على دفعته...ليعين مباشرة جراحا بمستشفى المدينة...
أنسى الوضع الجديد والده كل تلك المعاناة والتذمر وتحسنت حالة الأسرة الاجتماعية والمادية ...
وحدث أن دخل المستشفى رجل في بزة أنيقة يعلوه شيب وظهر على ملامح وجهه ذهول وذعر كبيران وراح يصرخ في الرواق ملوحا بأشعة وملف طبي معقد .. 
كان الملف الطبي يخص أحد أبنائه الذين أعيتهم الأدوية فاستقرت التحاليل والأشعة على وجوب إجراء عملية جراحية في الأعصاب ونسبة نجاحها حسب الأطباء ضئيلة جدا ... 
خرج الطبيب الأعرج من مكتبه فوقعت عيناه على ذاك الرجل وفي لمح البصر تذكر ازدراءه وعجرفته يوم الحادث ... فاختنق غيظا وكتمه بمشقة حالما أيقن أنه طبيب محلف وجب عليه آداء واجبه الإنساني ...
دنا من المريض الذي كان يناهزه عمرا وهو يئن بين يدي والديه.. فمر أمامه شريط مكابدة أمه لأجل أن يصل إلى هذه القيمة العلمية والاجتماعية المرموقة ... 
تأمل مليا في وجه الوالد الذي لم يتعرف عليه بعد ما يربو عن العقدين من تلك الحادثة المروعة...فصارع نفسه ألا يخبره بيوم الحادث وألا يمن بعمله وواجبه على أحد ثم فضل كتمان الأمر نهائيا ...وبينما كان الجميع يرمقه خلسة ويراقب رجله اليسرى وهي تعرج ،أومأ إلى الممرضة بتحضير غرفة العمليات وذلك بعد أن اطلع على كل حثيثيات الملف الطبي ...
أخذ كل من كان في الرواق يثني عليه ويسرد خصاله وهو مشغول في عنبر الجراحة ....
بعد ساعات خرج مزيحا كمامة على وجهه ماسحا ما تصبب من عرق من جبينه وبشر الجميع بنجاح العملية ...فأسرع الوالدان يشكرانه ويدعوان له بالخير والدمع لم يبرح مقلتيهما مطلقا...
تملص الحكيم من جلبة الرواق ومن ثناء الأهل والرفاق ...وانسحب بكل كياسة ولباقة إلى مكتبه وقد أوصى بإخلاء الساحة وعزل المريض الخاضع لتوه للجراحة ...فالحالة كانت حرجة تستدعي عناية مركزة وهدوء تاما ، وآثر المبيت في مكتبه مضطجعا في سرير المناوبة ولم يشأ نزع مئزره البتة ...أُخلي الجناح عنوة وساده الصمت والسكينة حتى الصباح .. 
بينما عاد الطبيب إلى بيته لينال قسطا من الراحة، ولم يفوت الفرصة لسرد الواقعة لوالديه ..وأن والد السقيم لم يكن سوى المتسبب في إعاقته ..حينها هرع والد ذاك الشاب الممدد إلى المشفى ليطمئن عليه مصطحبا والدته ، لكنه مُنع من دخول غرفة الإنعاش ...
وما أن سأل على اسم الطبيب حتى رن جرس ذاكرته وعاد به إلى سنوات خلت ولاحت في ذهنه صورة ذاك الطفل في تلك الصبيحة المشؤومة .
حدث عقيلته في الأمر فاستغربت قائلة : ولهذا أطال ذاك الطبيب النظرإليك مطولا .
ثمة أدرك الرجل مما لا يدعو للريبة أن هذا الطبيب الخلوق الخدوم لم يكن سوى ذاك الصبي الصبور الكتوم يوم الحادث المشؤوم...ثم تأكد بنفسه يوم أن أجري التحقيق وسيق إلى مركز الشرطة ليدلي بتصريحه....
في المساء عاد الطبيب متفقدا متعهدا في همته المعهودة ...وما إن رآه الرجل حتى راح يعانقه ويطلب منه الصفح على جفائه وغلظته قبل عقدين.. وأنه ممتن له على صنيعه تجاه نجله المريض وعنايته الفائقة به ....
ثمة جالت بخاطر الطبيب هواجس وأفكار نفس أمارة بالسوء لكنه قهرها في ضامره ...وربت على كتف الكهل وأكد له نسيان الحادثة ...ثم عرج على غرفة الإنعاش في دورية مألوفة يتفقد فيها كل حالة مستعصية .. 
مرت تلك الأيام عصيبة مقلقة حتى أفاق الشاب من غيبوبته فتنفس الجميع الصعداء. توطدت العلاقة بين العائلتين، خارج نطاق المئزر والسماعة والأشعة ...وظلت هذه تتردد على تلك وغدا الطبيب وذاك الشاب صديقين.. بعد أن بثت فيه الأنفاس من جديد بحول الله .. وكان ذاك الأعرج سببا حالفه التوفيق .....تقدم الدكتور لخطبة بنت العائلة الصديقة فطار والدها فرحا أن صاهر كريما ذا خلق...ومن يومها غدا حبل الود بين الأسرتين متينا... 
"""""""""""""""""""""""""""""""""""""
مقدير إبراهيم ..تبسة ( الجزائر)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.