قصة قصيرة
السجين
دقت الساعة الرابعة صباحا، وزيد "مازال زايد في هبالو "، يبيت لياليه، صاح تائها في متاهات لا يحسد عنها، ارقته وطردت النوم من اجفانه، يستعرض من خلالها سوء طالعه، وخيبة بخثه، حتى غدا يقوم ويقعد، على وهم يقضي ومن أجله، طول النهار وتحت وطأة البرد والحر، بمكاتب التشغيل، معتصما شأنه في ذلك شأن غالبية أمثاله، من حملة الشواهد العليا، يحدوه أمل الوظيف، تتويجا لسنوات عمر ذهبت، في الجد والتحصيل، كانت نهايتها البطالة والندامة، أنزلته من علياءه، وحكمت عليه تصديق الكذب، والجري وراء وعود سرعان ما ابانت على حقيقتها، وانكشف غطاؤها، وطفا على وجه الأحداث، كمشكل مزمن، طالما وقع التستر عليه، وكأزمة ضاربة بجذورها في العمق، لا يمكن معها، الا المراوغة وتملي الضحايا بالفرج القريب.
وتحت أقنعة مزيفة وإبعاد أيديولوجية ومصالح براغماتية، انتصبت كل القوى التي تدعي لنفسها التقدم والانعتاق، دفاعا عنها منددة بها، لا لشيء الا لكسب الاصوات وإعلاء المنابر.
استوى على ظهره، ربع يديه، اغمض عينيه واستجمع كل قواه، وغاص في عمق أعماقه، يسترق السمع، محاولة منه اصطياد النوم، لكن بدون جدوى، وكأن النوم أقسم على مخاصمته.
انسل من فراشه وتخطى حشود إخوته، الراقدة على الحصير، رقدة الاموات، إلى خارج البيت دون عبء إيقاظ غول عداد الماء والكهرباء، خوفا من هول الأرقام والفواتير، ومراعاة لما يجود صندوق اجتماعي، من دريهمات على الوالدة، رحمة لها من آفة الترمل، وعملا بالتقشف ودعاية نداء الضمير.
كان الجو ضبابا كثيفا، جثا بكل ثقله، فغدا المكان ظلمة في ظلام، فحتى اشعاعات مصابيح الاعمدة، تكاد تكون محتشمة، وقطرات مطر خفيفة، لامست وجهه، فبددت سحنته، وعلى عتبة الباب، وقف واطال الوقوف، تمليا برطوبتها وانتشاءا بطلها.
احس بقشعريرة تسري في جسمه، فهرع محتميا بظل حائط، رفع عينيه إلى السماء وأطال النظر إليها، وكأنه يستشف الرحمة لاحواله.
تصادف خروجه وآذان صلاة الفجر، ومن بعيد، تراءت له أشباح تتراقص في جنح الظلام، مهرولة اتجاه المسجد، وبدون أدنى تردد، هرول مع المهرولين.
وبالمسجد راعى انتباهه غياب وجوه تدعي الإسلام، وبالإسلام تتصيد الاصوات، وتنصب نفسها حاميا له، فترقى إلى عالم السلطة، فالتسلط، وحضور وجوه تعمل في الظل ولا تبتغي الا مرضاة خالقها.
اصطفت الصفوف واديت الصلاة، وكان الخشوع القاسم المشترك بين هؤلاء الحضور، دون تكلف او تصنع، ومن خلاله تحسس روحه، سابحة في الملكوت الأعلى، نشوان لايلوي على شيء. وهنا أيقن أن الدنيا مازالت بخير، بوجود هؤلاء.
انتهت الصلاة وخلصت الأدعية، فأغلقت أبواب المسجد، ومضى كل مصل الى حال سبيله.
تسمر مكانه، اسودت الدنيا في عينيه، لا يدري ما يقدم ولا ما يؤخر، فهام على وجهه، بين دروب وأزقة الحي، يدور ويلف، حاملا همه وهم إخوته، تتقاذفه الوساوس ولا حيلة له معها، سوى مداراتها إلى أن قادته رجليه، إلى محطة الأوتوبيسات.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، وفي مثل هذه الساعة، تعرف المحطة رواجا وحركة دؤوبة، يختلط فيها الصخب واللغو، تبتدئ بخدمة الجملة، فخدمة المعامل، فخدمة الإدارات.
هاله هذا المشهد الرائع وهذا الجيش العر مرم، من الخدمة من المعذبين في الأرض، وفجأة لفت نظره، سيارة أمن بين ذهاب وإياب، اتخذت من المحطة بداية ونهاية لصولاتها وجولاتها، ترد الابتسامات بالغمزات، والتحيات بالإشارات، وتبسط الأيادي للأيادي، تخنق هذا وتغطى الطرف عن ذاك، فتعجب لأمرها واهتمامها بالمحطة، واهمالها للمسجد والدروب، وتركها تحت رحمة الرب وحده.
تابع سيره، وانقاذ مع التيار، فانجرف وسط سيل من الخدمة راجلا، ورويدا رويدا وعلى مشارف الحي الصناعي، انتبه إلى نفسه، فإذا به وحيدا وكأن الأرض ابتلعت ذلك السيل من الخدمة، أدار بوجهه ناحية المشرق فتراءت له ومن بعيد، اشعاعات تبشر بطلائع يوم جميل.
لم يشأ التوقف، فولى الأدبار من حيت اتى، وعادت الوساوس والمصير المجهول تتفاعل داخل رأسه، وتتعصر دموعا في عينيه، وفجأة استوقف انتباهه مجموعة رجال ونساء، تجمهروا في صمت بين عراك وزحام، قبالة باب رئيسي لمعمل.
اقترب منهم وتصيد الخبر، فاختلط بهم حبا للاستطلاع، ولم يدري إلا ورب العمل، بطلعته الإقطاعية، يزهو شامخا بجلبابه البزيوي، يتلاعب بالسكار بين شفتيه القاتمتين، وكأن الأرض لا تسعه، يشير عليه.
لم يصدق نفسه، أهو في حلم من أمره أم في علم. تريث قليلا، وبعد جهد جهيد وصراع مرير، أزاح عنه أنانية الشهادة وعقدة الأستاذية، فانعتق من براتين هذا السجن الموحش.
فماكان منه إلا أن طأطأ رأسه وانحنى أمام رب العمل: حاضر سيدي...
تأليف: عبدالاله ماهل
من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.