الخميس، 25 يونيو 2020

رشيد والنهر العتيد بقلم وعد الله حديد

رشيد والنهر العتيد
قصةٌ قصيره من زمنٍ جميل
في العشرين من حزيران 2020
حدث في صيف عام 1962
إنها مدينةٌ جميلةٌ , سِرُّ جمالها يكمنُ بكثافة أشجار أليوكالبتوس وألسرو ,وأشجارٌ مُعَمِرَةٌ أخرى ألمزروعة في معظم شوارعها ومساكِنِها ,تشوبُ ألمدينة نِسماتُ هواءٍ باردةٍ في مواسم ألحرألأكثر لهيباً ,طيبةُ اجوائِها نتيجةً حتميةً بِسببِ إطلالتها ألرائعةَ على إحدى صفحتي النهر وتحيط بها مساحات شاسعة مزروعة بزهرة عباد الشمس وأنواع اخرى من ألخضار , إنها ولا شك مثل لوحةٍ فنيةٍ أبدعَ برسمها فنانٌ إحترافي..
عَشِقتُها صغيراً ومازال عِشقهُا يحتويني وقد غادرتُ ألسبعين ,ترتمي المدينةُ على إحدى ضِفتي ألنهر, تلك هي الضِفة أليمنى ,وليس لِضِفتها ألأخرى عنوانٌ ,لم تُدنِسُها أقدامُ إنسانٌ ,إنها شبهُ غابةِ أحراشٍ عذراء لاتصلحُ للسكنى ,
النهر فائِرٌ في أربعةِ مواسمَ ولاسبيلَ لِمُهادنتهِ أو لِعبورهِ حتى لو كان عبوراً بزورقٍ يتيمٍ فليس من سَدٍ كي يجمحَ عنفوانه وإن صادفَ أن غامر أحدُهم بعبورهِ فسوف يلوم نفسَهُ لأنه سيكونُ قد غامر بحياته عن غير قصد .
تكاد المدينة ان تختنقَ بِزوارِها طيلةَ موسمِ ألصيف وإن لم يلقَ أولئك ألزوارُ مكاناً يبيتون فيه لندرةِ فنادقها وتشَبُعِ مساكِنها بالمصيفينَ فسوف يُضطرُ ألبعضُ لِقضاءِ ألليلِ على أرصفةِ ألشوارعِ يتسامرون ويستمتعون بِاِرتشافِ الشاي ويتجاذبون أطراف الحديث يتسلّون ب(حب البطيخ)صنع منزلي لأن (حب عباد الشمس) لم يكن قد أُخترع بعد.
إنّ صيتَها لهُ علاقةٌ مُلِحَةٌ بالمياهِ ألكبريتيةِ ألساخنة ,ألساخنة ِجداً ألمجبولةَ بمادةٍ قيريةٍ سوداء ,هذه ألمياه وتلك ألمادة ألقيرية والغرينية ألأخرى رمادية أللون كل اولئك كان عنواناً للمدينةِ الحاضرةِ فوق كُلِّ لسانْ فوق كلِ بقعةٍ من بِقاع ألوطن. تتفوقُ مياهُها في صيتها الذائعِ على معظم ألمياه ألساخنة ألمتواجدةِ في دول ألجوارِ لتركيببتها الكيمياوية التي سَجّلتْ حضوراً عِلاجيّاً للكثيرِ من ألأمراض ألجلدية.
تلك هي ناحية حمام العليل.
إسمٌ يُثيرُ ألمشاعر ,مشاعِرَ من نوعٍ مُختَلِف, لقد تمكنتْ المدينةُ بطقوسِها ألكرنفاليةُ ومياهِها ألمعدنيةُ وسهراتِ زائريها حتى إنبلاجِ ألفجر أن تجتذبَ إليها أُناساً تَوَلَدَ لديهم شعورٌ جامحٌ كي يعاودوا المجيئ اليها كلما سنحت الفرصة .كان هذا حال الناحية وحال مواطنيها وزائريها إلى عهدٍ قريبٍ ولكنَ تلك ألطقوسُ ألفرائحيةُ ألنابعةُ في نفوس طاهرة طيبة تأبى أن تلازِمَ ألقومَ مدى ألحياة,شأنُها شأنُ أيُّ شيئٍ جميل لن يصمد جمالُهُ بوجه العاتيات ولن يكتسب صفة الازلية مطلقا , غادر ألقومُ طقوسِ ألفرحِ منذ عهد غير قريب و أُخْتُزِلتْ جميها بسبب رياحٍ عاتيةٍ صفراء إجتاحتْ ألأماكن والزمان فأحالت الدنيا وماعليها الى ركام وأُ حيلَ ألأنسانُ فيها الى بقايا إنسان ولم يعد المكان يجتذب إلأّ ألقليل َمن ذلك ألأنسان .
ها نحن الان قد عدنا الى صيف عام 62
إنها رغبةٌ وعشقٌ مستديم للعيش بِهناءٍ وصفاءٍ بالٍ تامين ,تلك ولا شك هي نواميس الحياة التي يصبو الناس اليها جميعا ,ولأستكمالِ متعةِ ألحياةِ تلكْ فلابد من ألتحرر والانطلاقِ خارج جو ألمدينة ألخانقِ ألمليئِ بالأدخنةِ وعوادمِ ألسياراتِ وألصخبِ وألضجيج,
لابد من التغيير ,إنّ تغييرَ ألمكانِ ومِثلُها ألأجواءُ وألوجوه ُضرورةٌ مُلِحّةٌ يجب أنْ ينتهجُها ألأنسان ,ذلك مايفعله السفر من فعل ساحر ليجدد نشاط الانسان ويزيد من معرفته ويُخلِف وراء ظهره ألسموم والمنغصات بِمُجملِ اشكالِهِا ,
سوف لم نحتاج ان نغادر الوطن فالتغيير هذه المرة سيكون ضمن مياهه واراضيه,
إنّ الاجواءَ ألمنعشةَ وألهدوءَ وأسبابٌ مُلحةٌ أُخرى كفيلةٌ للتفكيرِ بزيارة الناحية ,وتكتمل المتعة بوجود تلك ألمياه ,ألمياهِ ألساخنةِ ألتي تُثيرُ عاصفةً من ألأشتياقِ لِلاستلقاءِ فيها وألتمتعِ بها إلى أقصى حالة من الاستمتاع خاصةً وأنها تنفرد بميزة ألعلاجِ الشافي للذين يعانون من الروماتيزم والحكّةِ ألجلديه .
ولكن مابال الصبية والشباب والشابات في مقتبل اعمارهم ,إنهم لا شأنٌ لهم في المياه التي تحرق اجسادهم في جو فائق الحرارة ,لقد أمّوا المكان من اجلِ ألمتعة في مياه باردة ,لابد أنّ لهم رأيُهم ألمغايرُ في المكان .لقد وجدوا ضالّتهم في تفرعاتِ النهرِ وتكوينه لِتُرعٍ وشواطئٌ رمليةٍ شفافةٍ حيث ألمتعةُ على أتمِها فعمق المياه فيها لايتجاوز ثلاثة اقدام ,
إن رشيداً لايمكن أن يعبث مع هؤلاء الصبية والصبايا في مياهٍ ضحلةٍ مثل تلك ,إنها لاتثيرُ لديهِ تحفيزاً ولا يُعيرُ هو لها إهتماماً فمهاراتُهُ في السباحةِ لا يُحفِزُها إلأّ ذلك النهرُ العتيد , ليس لديه أيّةَ رغبةٍ للمغامرة إلاّ في فورانِ ألمياه وتلاطم الامواج هناك في عرض النهر, هناك ينبغي ان يتواجد الكبار .
لابُدَ أنها (أُمَهُ) كانت في حالة من الارتياح وهي ترى الفرحة باديةً على وجوهِ أبنائها ,إنها تراقب عن كثب إبنتها وليس بعيدا منها أخيها الذي كان هو الاخر يلهو مع بعض صبية ولم تكن لتفكر اين يمكن ان يتواجد رشيد في تلك اللحظة فلابد انه في مكان ما آمناً فهو فوق كل التوقعات التي يمكن ان يعكر بها صَفوَ أُمِهِ وينغص لها يومها.
لقد جاوز ألعشرينَ من عُمُرهِ ولابد أنه يهنأ بالسباحةِ ليس بعيداً ,لا خوفَ عليه فهو متمكن من نفسه ومن نزواته وأن النهر لا يشكلُ خطراً عليه ,فهو سبّاح ماهر ,,هذا ماكان يجول في خاطرها.
وفي غفلةٍ من امه وبعيدا عن ناظرها وضع أولى قدميه في مياهِ ألنهر ,إنها بدايةُ تنفيذ ألفكرةِ ألتي إلتمعت في رأسه والتي أبى أن يُطلِعَ عليها احدا ,فلو أنه فعل وأشاع خبراً فسوف تفشل مهمته وسوف يعود أدراجَهُ خائِباً دون أن يحقق حلمه بعبور النهر,كانوا حتماً سيمنعونه .
إنه الان وسط النهر لم يزل يسبح في مياه راكد ه ولكن سرعان ماانقلبت مياه ذلك النهر الوديع الى بحر متلاطم الامواج ذو دوامات عنيفة جعلته يدور في حلقات دائرية .لابد ان يعقد العزم للتخلص منها ولكن كيف,
إستطاع ببعض مجهودٍ ومناورة ذكية النأيَ عنها قدر المستطاع واكمل السباحة بإيقاعٍ يكتنفه ارتباك وتوتر مشوبٌ بحذر ,
هاهو ذا يلامس قاع النهر بقدميه .
لقد تمكنَ أن يُنهيَ هذهِ ألملحمةَ بِصبرِ كبيرٍ ومطاولة من نوع فريد,إستلقى فوق أرضٍ يانعةِ ألخضرةَ تَعِباً وحيداً ,إلتفتَ يميناً وشمالاً ولكنَ المكانَ يبدو خالياً من ألأنسان ومن أيَةَ دلائل اخرى تفيد ان هنالك حياة ,إنه وفي مثل سنه لايجدر به ان يرتعب ولكن عُزلة المكان وانزواؤها تستدرجه نحو حالة من الخوف والتوجس.
وغرق مع افكاره في كيفية عودته الى الضفة التي انطلق منها قبل ساعة من الان ,ربما سَبَبتْ الدوامات له ردَّ فِعلٍ عكسيٍ جعله يعيد النظر في حساباته باتجاه العودة .وكان ذاك من ضمن دلالات منطقية أُستُحدِثَتْ في رأسه كي ينآى بنفسه عن اية مخاطر محتملة ألآن و مستقبلاً.
ما الذي تفعله هنا.
إلتفت رشيدُ ناحية الصوت ليرى شاباً وهو يحمل عصاً غليظةً بيدهِ .
عرف أنه المعني بالجواميس ,
إستغرب الجماسُ مما رواه رشيد وقال
صحيحٌ أنه عمل بطولي ولكنه عملٌ طائش
فهل فكرت في الطريقة التي تنوي أن تعود بها ,إن ألمكان ألذي أنت فيه لا يأتِهِ أحدٌ سباحةً وإن كان موسماً لزيادةِ ألمياه مثل الذي نحن عليه فسوف لن يفكر أحداً أن يعبرالنهر حتى لو كان بزورق.
إتفق الاثنان عل طريقة العودة ,الطريقة التي لاسبيل لسواها,
قال الرجل الجماس لرشيد :إن عليك ان تمسك بكلتا يديك بعظمتي الجاموسة في نهاية ظهرها ولا تقم بأية محاولة اخرى وستقوم الجاموسة بواجبها وايصالك إلى الضفة الاخرى بأمان.
يقول رشيد ان الجاموسة وقد شرعت بالسباحة إنتفخت وأمتلأ جسمها بالهواء واصبحت سفينةً حيوانيةً وأخذ يسمع بوضوح صوتها وهي تتنفس وتزفر الهواء والماء بشدة متناهيه مثل محرك آلي ,
إنه ألآن بين أهله والجميع يحمد الله على عودته من مهمته بسلام بعد ظنهم أنّه كان من المغرقين , بدأت بعدها سلسلة لوم وتقريع تنهال عليه ولكن لم يبدُ عليه أنه كانَ مُبالياً لتقريعاتهم ,إنه ألبطل رغم أنف الجميع ,لقد سجّل إنتصاراً وسبقاً رياضياً لم يقم أحدٌ بِمثلِهِ في سابق ألأيام .إنه فخورٌ يزهو بين اصدقائه وهاهو ذا التاريخ يسجل له إنتصارا ًساحقا .
كان الحظ حليفاً له في هذه المرة ولكن الموت كان أقربُ إليه من الحظ ,لقد شاء الله ان يبقيه حيا ليتعلم الناس من بعده درسا ,أن لايبادر أحدنا بِإلقاء نفسِهِ في ألتهلُكه ثم يُعلِلَ التهلُكةَ على أنها القدر الذي لامفر منه ., يجب الحذر مع خوض النهر وحساب دقيق لأحتمالات الفشل وليس الفشل هنا هو فشلٌ في درس الرياضيات ثم أن يُمنح فرصةً لمعاودةِ الامتحان ,ألفشل هنا هو الموت بحد ذاته وسوف لن تكون هنالك ادنى فرصة لأمتحانٍ ثانٍ.
لايفكر احدنا ان يغامر بما ليس له به علم ,ان نتائج مغامرة مثل تلك تكون عواقبها وخيمة اكثر الاحيان ,وإن ذلك الرجل الجماس لو لم يكن له حضوره في تلك اللحظة لبقي رشيد ٌأسير ألغابة ثم يدركه الليل فيصبح لُقمةً سائغةً ووجبة عشاءٍ فاخرةٍ للخنازيرِ ألبريةِ التي غالبا ما تنتشر في تلك الاحراش.
وعد الله حديد
الموصل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.