جسر الحرية
قصة قصيرة بقلم : حسام الدين فكري
..................
- هل سمعت ماقلته لك، سيدي المدير ؟!
- نعم سمعت، لكني لم أقتنع
- بالطبع، لم تقتنع لأنك تريد تنفيذ الأوامر؛ حتى وإن كانت خاطئة
- لقد صدر الأمر من رئيس المدينة، وإنني أتفق معه
- ياسيدي، كيف يريد رئيس المدينة منّا أن نُشيّد جسراً بين ميدانين، أحدهما آهل بالسكان والآخر مهجور تماماً ؟!
- أنظر ياولدي، نحن هنا في إدارة المشروعات الهندسية تنحصر مهمتنا في
التنفيذ وليس في إبداء الآراء، هذا أولاً، أما ثانياً فمن الواضح إنك لم
تفهم الهدف من إنشاء الجسر، فنحن نريد إعمار الميدان المهجور، عن طريق
إنشاء هذا الجسر، فما أن يُقام الجسر حتى ينتقل أهل الميدان المعمور – من
خلاله – إلى الميدان المهجور، فيصبح عامراً بالسكان أيضاً، أم إنك ترى أن
نتركه مهجوراً هكذا ؟!
- ياسيدي، إن سكان ميدان "الشرف" – المعمور – لن
ينتقلوا أبداً إلى ميدان "الحرية" – المهجور – ولو أنشأنا مئة جسر وليس
واحداً، أم إن سيادتك قد نسيت أن ميدان الحرية كان مسرحاً لتلك الفتنة
الطائفية العاصفة، التي نشبت على أثرها معارك هائلة – قبل بضع سنوات – أودت
بحياة آلاف الضحايا الأبرياء من سكان مدينتنا، ما جعله بمرور الوقت على
هذه الصورة الجرداء ؟!
- لا، لم أنس شيئاً، ولكن لايمكننا أن نتركه مهجوراً هكذا إلى الأبد
- كما تريد يا سيدي، فما أنا إلا مهندس بسيط في إدارتك، رأيت من واجبي أن
أنبهك، حتى لا يكون إنشاء هذا الجسر إهداراً للمال العام بلا طائل، لكني في
النهاية لا أملك إلا تنفيذ أمر رئيس المدينة، حتى وإن كنت لا أتفق معه !
...مضت بضعة أشهر على هذا الحوار، تم خلالها إنشاء الجسر، وافتتحه رئيس
المدينة بذاته في حفل صاخب دعا إليه لفيف من رؤساء المدن المجاورة..لكن
شيئاً لم يتغير؛ فلم تتحرك سيارة واحدة من ميدان الشرف إلى ميدان الحرية
عبر الجسر، ولم يعبره إنسان واحد على قدميه..وظل ميدان الحرية مهجوراً كما
هو..لا فرق بين (قبل الجسر) و (بعد الجسر) !.
اجتمع رئيس الإدارة
بمهندسيه من جديد، لتداول الرأي حول ماصار إليه الجسر، الذي تقاسم لقب
(المهجور) مع ميدان الحرية سواءً بسواء !..ومن بينهم مهندسه الأول الذي
نبهه فلم يستمع إليه، جلس المهندس صامتاً لاينطق بشيء، واكتفى بإرسال نظرة
لائمة استقرت في عينيه إلى رئيسه، الذي تعمد أن يتجاهله حتى يتجاوز وخزات
ضميره الذي كان يلومه بدوره على إهدار المال العام في مشروع لم يحظ بشيء من
النجاح !.
وفيما هم يتناقشون في عدة أفكار اقترحها المهندسون لتحريك
المياه الراكدة، إذ برئيس المدينة يقتحم اجتماعهم غاضباً، ثم يصيح فيهم
جميعاً مطالباً بابتكار أفكار ناجعة تنقذ المشروع الذي صار دليلاً على فشل
رئيس المدينة في فرض هيمنته على سكان مدينته..جلس الرئيس محاولاً تهدئة
نفسه يستمع إلى اقتراحات المهندسين، حتى لفت انتباهه اقتراح منها رآه
مبتكراً، فطالبهم بتنفيذه على الفور !.
أقامت الإدارة الهندسية محطة
للوقود قبل جسر الحرية مباشرة من جهة ميدان الشرف، وأعلنت أن كل السيارات
التي تصعد الجسر نحو ميدان الحرية سوف يتم تزويدها بالوقود مجاناً..لاقت
الفكرة نجاحاً جزئياً، عندما تحمس بعض قادة السيارات من أهل الشرف وقرروا
اغتنام الفرصة، لكنهم ما إن هبطوا ميدان الحرية حتى وجدوه مهجوراً، لا حياة
فيه، فعادوا أدراجهم على الفور !.
هنا أصدر رئيس المدينة قراره بتأجير
حوانيت ميدان الحرية مجاناً لعام كامل، لكل من يتحمس ويذهب لافتتاح حانوته
في الميدان..لاقت هذه الفكرة أيضاً نجاحاً جزئياً، ودفعت بعض سكان ميدان
الشرف إلى عبور الجسر وافتتاح حوانيتهم في ميدان الحرية، لكن الميدان ذاته
بلا سكان يقطنون حوله، فمن ذا يشتري من تلك الحوانيت شيئاً ؟!.
اتخذ
رئيس المدينة هذه المرة قراراً جريئاً باستقدام بعض أهالي المدن المجاورة
لتعمير ميدانه المهجور، وأعلن أن كل من يأتي سوف يحصل على شقة مجانية في
أبراج ميدان الحرية الخاوية..سارت الحركة بطيئة في أول الأمر، ثم تسارعت،
ثم ازدادت تسارعاً، فلم تمض بضعة أشهر أخرى إلا وكانت أبراج ميدان الحرية
تكتظ بالناس !.
هنا قرر أهل الشرف من جانبهم إغلاق جسر الحرية من
جهتهم، حتى لا يعبره سكان ميدان الحرية الجدد إليهم..وصار الحوار اليومي
كالتالي : أهالي ميدان الشرف يغلقون الجسر، ثم قوة الأمن تفض تجمهرهم، ثم
الأهالي يغلقون الجسر في الصباح التالي من جديد !!.
**
أرسل أحد أهل الشرف بصره نحو أبراج ميدان الحرية التي تفيض بالحياة، ثم قال لرفيقه بنبرة يعتصرها الأسى :
- لقد صار ميدان الحرية عامراً بالناس، رغم كل شيء !
فردّ عليه رفيقه، وهو يلمح الشمس الغاربة بعينين شاخصتين، تستشرفان أحداثاً كبرى تلوح في الأفق البعيد :
- بالفعل، لقد أصبح ميدان الحرية يضج بالحياة، لكنه لم يعد ينتمي إلى مدينتنا ! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.