الأحد، 11 مارس 2018

ذاكرة من تراب بقلم عماد رسن



ذاكرة من تراب
لم يسرق بصري لونها الفضي الذي مازال يلتمع في ذاكرتي حتى بعد مرور أكثر من خمسة وعشرين عاما ً. تلك القطعة النقدية من المعدن، الخمس فلوس، بلونها الفضي! لكن صوت تلك المسكينة وهي تصرخ في أول يوم عيد للأضحى قربانها الذي قدمته بغير رضا أثلج الحركة في عيني! لم أفرح بعيديتي التي وجدتها على الأرض والتي بدت وكأن أحدا ً تركها لطفل بريئ. فذلك الموت الذي يختار بين الفينة والأخرى ضحيته من شارعنا الملون بلون التراب الذي يعفر اقدامنا العارية سيختار غدا ضحيته بلاشك. ولكن، ولكي يحتفظ الشارع باستقامته فلابد من قرابين ومن أغلى مانملك من شباب تتملكهم الأحلام, والرغبة بالحياة، أولائك الذين يزرعون الزوايا بالأوان التي تصبغ ملابسهم المتنوعة والتي تميز نفسها عن كل لون ترابي. فالجدران ترابية, والأرض ترابية, حتى الشبابيك تصبغ حواشيها بلون التراب من غبار يستقر على حافاتها. لقد ودع الشاب علي طاهر أبي قبل أسبوع فقط وهو يرتدي بدلة القوات الخاصة، وهو يترنح منتشياً وكأنه ذاهب في رحلة صيد. حتى إني أتذكر ابتسامته العريضة وخط شاربه الخفيف وشعره المجعد. جاء بصندوق خشبي بلون شارعنا الترابي أيضاْ، وكأ لون التراب هو قدرنا المحتوم، ولما لا، فلا أشجار خضراء كانت تعيش معنا, واللون الأخضر غريب عنا أصلاً، بل نتجنبه لكي لايزكم أنوفنا برائحة المجاري التي تمر من أمام بابنا في قطاع 8, والتي تلعق أقدامنا اللطيفه من طحالبه الشيء الكثير, وذلك عندما تغور تلك الكرة البلاستيكية التي نلعب بها في قاع مستنقعنا.

لقد كانت تصرخ بقوة، أمه التي كان لون عباءتها يتطاير كالشظايا على ذلك الصندوق المسمر حتى الإحكام. كأن في ذلك الصندوق سر يجذبها وكل عباءات الحي! فيولولن حتى النعيق كأن كل عباءة ستتشظى على صندوق آخر بعد حين حيث يختار الموت ضحيته القادمة. لم أر شارع سخي بالهدايا كشارعنا! فمع كل دورة من دورات الزمن السياسية يقدم القرابين! كأنها دورة حياة طبيعية. فمابين من يصلون ويركعون, وبين من يتأنقون ويلبسون أجمل ملابسهم, وبين من يسكرون ويتباهون بقراءة الروايات. أما التماع الخمس فلوس التي وجدتها صبيحة أول يوم من عيد الأضحى لم تمح من رأسي بريق التماع المسامير التي تحكم التابوت وفيه جثة الشهيد علي. لقد تسمرت معها كل مشاعري الصبيانية, وصرت لا أعرف أن هناك فصلا ً غير الخريف حيث يتساقط الرجال في ريح عاتية, ولا ينتظرون حتى هطول المطر للنبت بعدهم نحن الصغار.
سار الصندوق ببطئ شديد كأن مساميره لاحت الأرض من ثباتها, ورؤوس محنية نحو الأرض حسبتها تبحث عن شييء في الأرض. لكنها كانت تذرف الدموع بإنتظام, وبالخصوص ذلك الرجل المعطر من رأسه حتى قدميه! أبيه، ذلك الذي يحمل حقيبة شفافة بها انواع الزجاجات من العطر يبيع فيها بسوق الحي، وهي تفوح بعبقها على كل شارعنا, فقد كان مميزا ً بصايته الأنيقه وحقيبته الزجاجية وعطره حين يمشي. لقد كان أول السائرين لقربانه الذي طغت رائحته على كل مايحمل من عطر. وأخيرا ً تلك الغيمة من العباءات السوداء وهي تحلق في فضاء مهيب. ذلك الفضاء الذي يمتزج به لون الدم برائحة العطر بلون التراب الذي مازال يصبغ ذاكرتي.
عماد رسن
#

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.