الجمعة، 25 مارس 2016

الهم والحقيقه بقلم محمود عبدالمتجلي عبدالله

(( الوهم و الحقيقة ))
جلس في محبسه و أسند رأسه على الحائط الذي خلفه، وقع نظره على قضبان النافذة التي أمامه ودقق نفذ بصره إلي السماء التي لم يراها منذ أعوام إلا من خلال أسوار القضبان وسرح بفكره وتعدي كل الحواجز والأسوار. فكر بعمق في حاله وما آل إليه وتذكر زوجته وأولاده مثل كل المساجين ، لكنه هذه المرة لم ينشغل بأهله الذين في بلدة لأنه يعرف أخبارهم من خلال الزيارات من حين لأخر .
ولكن ما أهمه هذه المرة هي زوجته المغربية التي تركها منذ أكثر من أربع سنوات ولم يعرف عنها أي شئ بعد عودته إلي بلدة بعد أن استقرت الأوضاع وظن أنه لم يسجن بعد هدوء الأحوال ولكنه قد اعتقل بعد عودته بعدة شهور لأنه ينتمي إلي إحدى الحركات الإسلامية ومكث في سجنه بضعة أعوام من غير أن يعرف شئ عن زوجته المغربية الجميلة التي تزوجها منذ عدة أعوام وهي التي وقفت بجانبه حين كان وحيداً غريباً هناك لأن أولاده وزوجته لم يرحلوا معه حين ترك بلاده لينجو بنفسه من المعتقلات المتتالية التي كانت تلاحقه كل عام فكانت بلاد المغرب هي مقره، وهناك تعرف على جميلة و أراد الزواج منها حتي لا تقع في الرذيلة ولأنه لم يستطيع إحضار زوجته و أولاده إلي بلاد المغرب فتركهم ورحل إلي هناك وحال بينه وبين الزواج من جميلة بعض الأسباب القانونية مثل قانون عدم تعدد الزوجات فكان ذلك مانعاً لإعلان زواجه من جميلة فتزوجها زواجاً شرعياً غير أنه لم يعلن عنه للأسباب القانونية فتزوجها ولم يكن لديه أي أسباب لزواجه منها ولذلك لم يستطيع أن يعود بها إلي بلده فتركها هناك على أن يعود ليأخذها بعد عودته ولكن قبض عليه قبل أن يعود ليأخذها ولم يخرج من السجن حتي تلك اللحظة 
تذكر أحمد كل ذلك وتلك الأيام الجميلة وأخذ يلعن تلك القوانين الوضيعة التي حالت بينه وبين زوجته.
فأخذ أحمد يطرح عدة افتراضات على نفسه ويحاول أن يجد إجابات فهل يا تري ماذا يكون حال زوجته جميلة لأن وبعد هذه السنوات الطويلة هل مازالت حية أم أنها ماتت ؟ هل تزوجت أم تنتظره ؟ أم هل كذا أم هل كذا ؟ وجاءت في ذهنه هذه أسئلة كثيرة لم يحصل على إجابات لها ولكن تصور أحد الافتراضات و خرج بذهنه يفكر في هذه الافتراضات وتصور كأنه خرج من سجنه فكان أول ما فكر فيه أنه سافر إلي بلاد المغرب ليعرف أخبار زوجته ومحاولة إحضارها ليعود بها إلي بلده فذهب إلي مزرعة أبيها الذي لم يكن يعلم بأمر زواجه من ابنته وذلك لتفادي المسئولية القانونية على والدها والتي من الممكن أن تعرضه للسجن والغرامة إذا كان يعلم بزواج ابنته من رجل متزوج فذهب أحمد إلي بيت والد جميلة فوجده هو وأمها و أخواتها فاستقبلوه بحفاوة لأنهم كانوا يعرفونه مهندساً زراعياً في المزرعة المجاورة وكان له بهم علاقة صداقة قوية فرحبوا به وأحسنوا ضيافته وأخذ أحمد ينظر يميناً 
وشمالاًً في محاولة منه أن يري جميلة لكنه لم يرها وبعد أن جلس بعض الوقت أخذ يسأل عن باقي أفراد الأسرة وعن أحوالهم حتى سأل عن جميلة أين هي ؟ وما حالها ؟ فكانت المفاجأة القاصمة له عندما أخبروه أنها ماتت فاسترجع ولم يظهر اضطرابه وشدة حزنه أمامهم ثم استأذن وخرج من دارهم وهو مغموم مهموم في حالة متردية في أصعب ما يكون لأنه ظن أن من الممكن أن يكون هو السبب في موتها فلم يسامح نفسه ومكث في الفندق عدة أيام لا يخرج وهو حزين وقبل أن يرجع إلي بلاده بعد فشل مهمته التي سافر من أجلها أخذ يتردد على تلك الأماكن التي كانا يجتمعان فيها وتلك الذكريات السعيدة على شواطئ البحر وبين أشجار الغابات وعلى سفوح الجبال وتلك الصخرة التي بين الرمال بجوار الشاطئ يجلسون عليها طوال النهار، وأخذ أحمد يتردد على تلك الأماكن ويسترجع الذكريات وهو يراها وكأنها قادمة إليه، وكان يقوم من مكانه ليستقبلها ويأخذها بين ذراعيه فلم يجدها ولم يجد إلا الهواء والأمواج تطرح على الرمال تحت قدميه، ويأتي في اليوم التالي يجلس فوق تلك الصخرة فيراها تجري حوله مثل الفراشة وهو يسمع ضحكاتها و صوتها يتردد في أذنيه فيهمس بكلمات و كأنه يرد عليها ويحدثها و كأنه ينظر إلي الأمواج وهي تتبعثر على قدميه فوق الرمال الدافئة، كان يتوهم كل ذلك وهو يجلس بمفرده يسترجع الذكريات الجميلة مع زوجته الجميلة وكان كل ذلك نتيجة حالته النفسية المتردية منذ معرفة خبر وفاتها ومكث أسبوع بأكمله وهو في تلك الحالة وفي اليوم السابع وكان يوم الأحد وهو يوم العطلة الأسبوعية هناك ، كان يجلس مع نفسه كعادته يتوهم حضورها إليه وحديثها معه وكان قد قرر أن يسافر إلي بلاده في اليوم التالي ، وفجأة قد رأى شبحاً قادما من بعيد ولكنه لم يعبأ به وظل في ذكرياته وأوهامه الجميلة التي كان سعيداً بها ويقترب ذلك الشبح شيئاًُ فشيئاُ ، فيراه أحمد وكأنها امرأة بجوارها طفل يسيران على الشاطئ من بعيد ، وظل ذلك الشبح يقترب حتي رآها و كأنها في ملامح زوجته جميلة ولكنه ظن ان هذا من نوع الأوهام التي يراها كل يوم نتيجة حالته النفسية السيئة ، ولكن المرأة تقترب حتي لم يكن بينهم مسافة ، فيستطيع الواحد منهم أن يري ملامح الأخر بوضوح ، ولكن احمد لم يصدق عينه فهي في نفس الملامح ونفس القوام ، ولكنه ظن ان تلك الأوهام مازالت تعاوده ، وفجأة رآها تقف مكانها وتنظر إليه وهي لم تصدق عيناها فوقف احم مكانه وأخذ يفرك عينيه ليستفيق من أوهامه و يقظته وفجأة يسمع صوتها تناديه وتقول ( أحمد ) فلم يشعر بنفسه ووجد قدميه تنطلقان بغير إرادته ، وتركت المرأة ولدها الصغير وانطلقت نحوه وما هي إلا خطوات قليلة وانطلق الحبيبان وكلاهما لم يصدق الأخر يتحسسه بيده ليتأكد أنه ليس في وهم وأنهما في الحقيقة فتعانقا طويلا غير مصدقين ما هم فيه حتى جاء الطفل و أمسك بهما ليستفيقا على صوته ومكان يده وهو يقول ماما ، ماما ، ده زى صورة بابا التي كنت أراها فحملته أمه بين ذراعيها وهي تقول نعم يا أحمد ؛ هذا هو أبوك أحمد .
فنظر إليها زوجها غير مصدق ما سمعه وقال لها من هذا قالت إنه ابنك أحمد يا أحمد ، فأخذه في حضنه ويقبله في كل وجهه وهو غير مصدق ما حدث فأخذهما و جلسا على نفس الصخرة التي تعرفهم و شهدت حبهما ، فقال أحمد لزوجته جميلة اخبريني كيف حدث ذلك لقد عرفت من والدك انك مت فماذا حدث أحكي لي كل شئ ، فقالت جميلة – بعد أن سافرت بشهور قليلة ظهرت عليا علامات الحمل و أرسلت لك بذلك ولكنك ظننتني أدعي ذلك لكي تعود و كتبت لي أنك لم تستطيع العودة ولظروف قهرية ، وبعدها بدأت أمي تكتشف ذلك الحمل فأخبرتها بقصة زواجنا ولكنها لم تصدق ذلك واتهمتني بالفاحشة وأخذت تعاملني معاملة سيئة وهي تهددني بأنها ستخبر والدي وأخواتي ولم تصدق أسباب عدم إعلان زواجنا ولم تقتنع بها وإننا لم نخبرهم هي ووالدي حتي لا يتحملون المسائلة القانونية ، فخفت على نفسي وحملي فتركت دار والدي و تركت لهم ورقة مكتوب إنكم عند قراءة هذه الورقة سأكون قد انتحرت من فوق جبل كذا و ألقيت بنفسي في البحر من على الجبل ، وذهبت إلي هناك وسول لي الشيطان أن ألقي بنفسي حتي أتخلص من الفضيحة ولكن هناك تذكرت الجنين الذي في بطني و أنه من أحب الناس إلي وكان ذلك أملي الذي عشت من أجله فأبقيت على نفسي من أجله وتركت على ذلك الجبل حقيبة يدي و تطاير إيشاربي من على رأسي ليستقر بين بعض الصخور و رجعت إلي ابنة عمى المتزوجة في إحدى المدن البعيدة و التي كانت صديقة لي وتعلم بأمر زواجنا من قبل و أخبرتها بما كنت سأفعله وما حدث بيني وبين أهلي ، فأخذتني ووجدت لكي سكناُ بجوار سكنها وبقيت فيه حتي وضعت حملي .
وكان من أمر أهلي أن قرءوا الرسالة فذهبوا إلي الجبل فوجدوا حقيبتي فوق الصخرة و رأوا الأيشارب مطروح بين الصخور فظنوا اننى ألقيت بنفسي في البحر كما أخبرتهم .
ووضعت هذا الطفل الجميل الذي سميته أحمد باسمك حتى يذكرني بك إلي الأبد بعد أن فقدت الأمل في عودتك، ثم التحقت بعمل في مصنع خاص بالنساء وعشت أنا وولدي أحمد و أثناء العمل كنت أبعث أحمد إلي ابنة عمي حتي أعود، وهكذا مرت الأيام وتلك السنون وكل يوم أحد في عطلة الأسبوع آتي إلي هنا أنا و أحمد لأعيش علي ذكري تلك الأيام السعيدة وجئت اليوم لأقضيه مع ذكرياتك الجميلة و لم أتوقع أن أجدك و أرك مرة أخرى، فأمسك أحمد يدها و كأنه يطمئنها وهو آخذ ولده في حضنه ولم يتركه من بين ذراعيه وقال لها: لقد تحملتي الكثير من أجلي ولكن لن يكون بعد اليوم فراق أبداً وقبل ولده وقبلها وهو يقول: سآخذكم معي لنعيش معاً في سعادة وهناء إلي آخر العمر وسأعوضكم عن كل شئ...............
ثم سمع صوت أفزعه و أعاده من فكره ، وكان صوت أجش خشن يطرق الباب الحديد وهو يقول .............................................
حضر حاجة للتعين .............. يا مسجون أنت وهو 
ووجد أحمد نفسه مازال في زنزانته لم يخرج منها .
ليفيق من وهمه ويعود إلي الحقيقة و الواقع المرير الذي يعيشه داخل المعتقل.
أ.هــ
عام 1994 سجن أبو زعبل
===========================================
من مجموعة القصص القصيرة
تاليف-محمودعبد المتجلى عبد الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.